ماذا تعرف عن القبر


clip_image001

clip_image002
clip_image003

clip_image004
ماذا تعرف عن القبر؟
6 ـ أسئلة وأجوبة حول القبر
M
  إن الحمد لله تعالى نحمده   ونستعينه  ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،  من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له،  وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }         (سورة آل عمران: 102)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}     (سورة النساء: 1)
 
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }          (سورة الأحزاب:70،71)

أما بعد...،
فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى- وخير الهدي هدي محمد r وشر الأمور محدثاتها، وكل
محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
س: ما صحة قول القائل: دفن فلان في مثواه الأخير؟
جـ: هذا قول خاطئ؛ لأن القبر ليس المثوى الأخير، إنما المثوى الأخير هي جنة نعيمها مقيم، أو نار عذابها أليم.
قال الحـافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ في "أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشـور"
صـ 7، 8: "إن الله I خلق بنى آدم للبقاء لا للفناء، وإنما ينقلهم بعد خلقهم من دار إلى دار، كما قال ذلك طائفة من السلف الأخيار منهم بلال بن سعد وعمر بن عبد العزيز- رضي الله عنهما- فأسكنهم في هذه الدار ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ثم ينقلهم إلى دار البرزخ فيحبسهم هنالك إلى أن يجمعهم يوم القيامة، ويجزى كل عامل جزاء عمله مفصلاً، هذا مع أنهم في دار البرزخ بأعمالهم مدانون مكافئون فمكرمون بإحسانهم، وبإساءتهم مهانون. قال الله سبحانه وتعالى:
{وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(المؤمنون:100)، قال مجاهد: البرزخ الحاجز بني الموت والرجوع
إلى الدنيا، وعنه قال: هو ما بين الموت إلى البعث، قال الحسن: هي هذه القبور التي بينكم وبين
الآخرة، وعنه قال أبو هريرة t: هي هذه القبور التي تركضون عليها لا يسمعون الصوت
ـ وقال عطاء الخراساني: البرزخ: مدة ما بين الدنيا والآخرة.
ـ وصلَّى أبو أمامة على جنازة فلما وضعت في لحدها، قال: هذا برزخ إلى يوم يبعثون.
ـ وقيل للشعبي: مات فلان، قال: ليس هو في الدنيا ولا في الآخرة، هو في برزخ.
وسمع رجلاً يقول: مات فلان، أصبح من أهل الآخرة، قال: لا تقل من أهل الآخرة، ولكن قل: من أهل القبور". أهـ                                  (أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور صـ 7- 8)
 
س: ما هو اسم مَلكَي القبر؟
جـ: اسمهما منكر ونكير، والدليل على ذلك:-
فقد أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله r:
"إذا أُقْبِر الميتُ ـ أو قال أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير"  
    (وحسنه الألباني ـ رحمه الله ـ في الصحيحة:1391)، (ورمز له بالحسن في "صحيح الجامع الصغير":1/259)
وجاء في حديث آخر أخرجه البيهقي وابن أبي الدنيا مرسلاً ووصله ابن بطة في "الإبانة" من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول اللهr لعمر بن الخطاب t:
"يا عمر كيف بك إذا أنت متَّ فانطلق بك قومك، فقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع وشبر، ثم رجعوا إليك فغسَّلوك وكفَّنوك وحنَّطوك، ثم احتملوك حتى يضعوك فيه، ثم يهيلوا التراب ويدفنوكَ، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتَّانَا القبر منكر ونكير... ) الحديث
س: هل عذاب القبر وفتنته خاص بالأمة المحمدية؟ أم أنه لها ولغيرها من الأمم؟
جـ: اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: إن فتنة القبر خاص بالمؤمنين دون الكافرين
(وهو قول الحكيم الترمذي، وابن عبد البر، والسيوطي).
القول الثاني: إن سؤال القبر وفتنته عام للمسلمين ولغيرهم
وهذا ما رجحه عبد الحق الإشبيلي، وابن القيم، والقرطبي، والسفاريني... وغيرهم
وهذا هو الراجح لوجود الأدلة التي تدل عليه.
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في كتاب "الروح" صـ 116-117:
"فهذا موضع قد تكلم فيه الناس، فقال أبو عبد الله الترمذي: إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة؛ لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة، فإذا أبوا كفت الرسل واعتزلوهم، وعوجلوا بالعذاب، فلما بعث الله محمداً r بالرحمة إماماًَ للخلق، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}
(الأنبياء: 107)
أمسك عنهم العذاب وأعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف، ثم يرسخ الإيمان في قلبه فأُمهلوا فمن هاهنا ظهر أمر النفاق، وكانوا يُسرِّون الكفر ويعلنون الإيمان، فكانوا بين المسلمين في ستر، فلما ماتوا قيض الله لهم فتَّاني القبر، ليستخرج سرهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
وخالف في ذلك آخرون: (منهم عبد الحق الإشبيلى، والقرطبي) وقالوا:
السؤال لهذه الأمة ولغيرها
فقد جاء في كتاب "التذكرة" للقرطبي صـ 146 عن أبي محمد عبد الحق أنه قال:
"اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين، وكل على حاله من عمله، وما استوجبه من خطيئته وزَلَلِه.
وتوقف في ذلك آخرون: (منهم أبو عمر بن عبد البر) فقال:
في حديث زيد بن ثابت عن النبي r أنه قال:"إن هذه الأمة تُبْتَلى في قبورها" (رواه مسلم)، ومنهم من يرويه: "تُسأل".
وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك، فهذا أمر لا يقطع عليه.
وقد احتج من خصه بهذه الأمة بقوله r: " إن هذه الأمة تُبْتَلى في قبورها ".
وبقوله: " أُوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم " وهذا ظاهر في الاختصاص بهذه الأمة.
 قالوا: ويدل على قول الملكين له:" ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول المؤمن: أشهد أنه عبد الله ورسوله"، فهذا خاص بالنبي r، وقوله في الحديث الآخر: "إنكم بي تُمتحنون وعنى تُسألون" وقال آخرون: ولا يدل هذا على اختصاص السؤال بهذه الأمة دون سائر الأمم، فإن قوله: " إن هذه الأمة"، إما أن يراد به أمة الناس، كما قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم } ( الأنعام: 38)، وكل جنس من أجناس الحيوان يسمى أمة، وفي الحديث:" لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرتُ بقتلها".
وفيه أيضاً حديث النبي :r
الذي قرصته نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه من أجل أن قرصتك نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله. وإن كان المراد به أمته r الذي بعث فيهم لم يكن فيه ما ينفي سؤال غيرهم من الأمم، بل قد يكون ذكرهم إخباراً بأنهم مسئولون في قبورهم، وأن ذلك لا يختص بمن قبلهم؛ لفضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم.
وكذلك قوله r: "أوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم".
وكذلك إخباره عن قول الملكين:" ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ "
هو إخبار لأمته بما تمتحن به في قبورها، والظاهر والله أعلم أن كل نبي مع أمته كذلك، وأنهم مُعذَّبون في قبورهم بعد السؤال لهم وإقامة الحجة عليهم, كما يُعذَّبون في الآخرة بعد السؤال وإقامة الحجة. والله I أعلم". أهـ
وقفة:
قال السيوطي ـ رحمه الله ـ كما في "شرح الصدور"(146):
وقع في فتاوى شيخنا شيخ الإسلام علم الدين البلقيني: أن الميت يجيب السؤال في القبر بالسريـانية، ولم أقف لذلك على مستند. وسُئل الحـافظ ابن حجر عن ذلك، فقـال:
ظاهر الحديث أنه بالعربي، قال: ويُحتمل مع ذلك أن يكون خطاب كل أحد بلسانه.
ويقول ابن القيم أيضاً كما في كتابه "الروح" صـ 112، 115:
قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "التمهيد":
والآثار الدالة تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق (من كان منسوباً إلى أهل القبلة ودين الإسلام بظاهر الشهادة)، وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يُسأل عن ربه ودينه ونبيه، وإنما يُسأل عن هذا أهل الإسلام، فيثبت الله الذين آمنوا ويرتاب المبطلون.
والقرآن والسنة تدل على خلاف هذا القول. وأن السؤال للكافر والمسلم، قال تعالى:
{يُثَبِّتُ  اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ}
   (إبراهيم: 27)
وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر:
" حين يُسأل: مَن ربك، وما دينك، ومَن نبيك؟"
وفي حديث البراء بن عازب الطويل:
" وأما الكافر إذا كان في إقبال من الدنيا وانقطاع من الآخرة، نزل عليه ملائكة من السماء معهم مسوح..." وذكر الحديث،
إلى أن قال: "ثم تعاد روحه في جسده في قبره..." وذكر الحديث.
وفي لفظ: " فإذا كان كافراً جاءه ملك الموت فجلس عند رأسه".
وفي لفظ آخر في حديث البراء:
"وإنَّ الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا"
وبالجملة:  
فعامة من روى حديث البراء بن عازب قال فيه: "وأما الكافر بالجزم"
وبعضهم قال: "وأما الفاجر"، وبعضهم قال: "وأما المنافق والمرتاب"، وهذه اللفظة من شك بعض الرواة، وهكذا في الحديث: " لا أدري أي ذلك قال"، وأما من ذكر الكافر والفاجر فلم يشك، ورواية من لم يشك مع كثرتهم أولى من رواية من شك مع انفراده على أنه لا تناقض بين الروايتين، فإن المنافق يُسأل كما يسأل الكافر والمؤمن، فيثبِّت الله أهل الإيمان، ويُضل الله الظالمين، وهم الكفار والمنافقون.
وعن أبي سعيد قال: "شهدنا مع رسول الله r جنازة ـ فذكر الحديث ـ وقال:
"وإن كان كافراً أو منافقاً يقول له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري"
وهذا صريح في أن السؤال للكافر والمنافق، وقول أبي عمر ـ رحمه الله ـ:
"وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يُسأل عن ربه ودينه ونبيه، فيقال له: ليس كذلك بل هو من جملة المسئولين وأولى بالسؤال من غيره، وقد أخبر الله في كتابه أنه يسأل الكافر يوم القيامة.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ( القصص: 65)،
وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ} (الحجر: 92)،
وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}     (لأعـراف:6)
فإذا سئلوا يوم القيامة، فكيف لا يُسـألون في قبورهم؟ فليس لما ذكره أبو عمر
ـ رحمه الله ـ وجه ". أهـ بتصرف
وقد جاءت أحاديث عن النبي r تدل على أن الكافر وغيره من غير أهل الإسلام يتعرضون لفتنة القبر وسؤال الملكين ومنها:-
ما أخرجه مسلم عن أنس t عن النبي r قال:
"العبد إذا وُضع في قبره وتولَّى وذهب أصحابه حتى أنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد r؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال: انظر إلى مقعدك من النار أَبْدلك الله به مقعداً من الجنة. قال النبي r: فيراهما جميعاً. وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقول الناس. فيقال: لا دريت ولا تليت، ثم يُضربُ بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين"
وفي بعض رواياته قال قتادة:
وذُكر لنا أنه يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً – يعني المؤمن – ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون".
فائدة:
هناك جملة من الأحاديث تدل على أن المشركين وغيرهم من أهل الكفر والنفاق يُعذَّبون في قبورهم، ومن هذه الأحاديث:-
1ـ ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبى أيوب t قال:
خرج النبي r وقد وجبت الشمس فسمع صوتاً، فقال: يهود تُعذَّب في قبورها".
 قال الحافظ(3/309):
وإذا ثبت أن اليهود تعذب بيهوديتهم ثبت تعذيب غيرهم من المشركين؛ لأن كفرهم بالشرك أشد من كفر اليهود.

2. وأخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن عبد الرحمن بن حسنة  t  قال:
"انطلقت أنا وعمرو بن العاص إلى النبي r فخرج ومعه درقة، ثم استتر بها، ثم بال، فقلنا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة، فسمع ذلك، فقال: ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل، كانوا إذا أصابهم البولُ قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم فعذب في قبره".                                                ( صحيح الجامع: 1/416)
3. وأخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك t قال:
" أخبرني من لا أتهمُ من أصحاب رسول الله r أنه قال: بينما رسول الله r وبلال يمشيان بالبقيع، فقال رسول الله r: يا بلال هل تسمع ما أسمع؟ قال: لا والله يا رسول الله ما أسمعه. قال: ألا تسمع أهل هذه القبور يُعذَّبون؟ يعنى قبور الجاهلية".
ومعنى الحديث: أن بني إسرائيل كانوا يقرضون من البول الجلد والثوب (وهو من الدين الذي شرعه الله لهم) ولذلك لمّا نهاهم عن فعل ذلك عذب في قبره بسب نهيه.

4. وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أم مبشر ـ رضي الله عنها ـ قالت:
"دخل عليَّ النبي r وأنا في حائط من حوائط بن النجار فيه قبور قد ماتوا في الجاهلية، قالت: فخرج فسمعته يقول: استعيذوا بالله من عذاب القبر.
قلت: يا رسول الله وللقبر عذاب؟ قال: إنهم ليُعذَّبون في قبورهم تسمعه البهائم".
                         (قال الألباني في إسناده: صحيح على شرط مسلم، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه)
 
5. وأخرج الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب t قال:
" إن رسول الله r كان يرينا مصارعَ أهل بدر بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله تعالى، فقال عمر: فوالذي بعثه بالحقِّ ما أخطأوا الحدود التي حَدَّ رسول الله r، قال: فجعلوا في بئرٍ بعضهم على بعض، وانطلق رسول الله r حتى انتهى إليهم، فقال: يا فلان ابن فلان، ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقاً، قال عمر: يا رسول الله: كيف تُكلم أجساداً لا أرواح فيها، قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردُّوا عليَّ شيئاً".

وعند البخاري من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:
اطَّلع النبي r على أهل القليب فقال: وجدتُم ما وعدَكُم ربكم حقاً؟، فقيل له: تدعو أمواتاً؟، فقال: ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون".

وفي رواية أخرى عند البخاري عن أبى طلحة الأنصاري t:
"أن نبي الله r أمر يوم بدرٍ بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقُذِفوا في طوى من أطواء بدرٍ خبيثٍ مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليالٍ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشُدَّ عليها رحلها ثم مشى واتَّبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجة، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان ابن فلان، يا فلان بن فلان، أَيَسُرَّكُم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنَّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟، فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال رسول الله r: والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"
قال قتادة ـ رحمه الله ـ:
أحياهم الله ـ تعالى ـ حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً.

6. وأخرج الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله  ـ رضي الله عنهما ـ قال:
 "دخل رسول الله r نخلاً لبني النجار، فسمع أصوات رجال من بني النجار ماتوا في الجاهلية يُعذَّبون في قبورهم، فخرج رسول الله r فَزِعاً فأمر أصحابه أن يتعوذوا من عذاب القبر".
س : هل سؤال وعذاب القبر ونعيمه للبدن فقط، أم للروح فقط، أم لهما معاً؟
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:-
القول الأول: أن سؤال القبر للروح فقط، وذهب إلى ذلك: ابن حزم وابن هبيرة.
القول الثاني: أن سؤال القبر للبدن فقط، وذهب إلى ذلك: ابن جرير والطبري، وجماعة من الحنابلة منهم ابن عقيل في كتاب "الإرشاد"، وابن الزاغواني، وجماعة من الكرامية.
القول الثالث: وهو قول الجمهور أن سؤال القبر وعذابه أو نعيمه يكون للروح والبدن
معاً، وهذا هو الراجح.
قال ابن القيم نقلاً عن شيخ الإسلام كما في كتاب "الروح" صـ 67:  
وقد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة ونحن نذكر لفظ جوابه فقال: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة. أهـ
قال شارح الطحاوية ـ رحمه الله ـ صـ 451:
وليس السؤال في القبر للروح وحدها كما قال ابن حزم وغيره، وأفسد منه قول من قال: إنه للبدن بلا روح، والأحاديث الصحيحة ترد القولين، وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتُعذب مفردة عن البدن ومتصلة به.
وقال ابن حجر في "الفتح" (3/377) في قصة أصحاب القليب ووقوف النبي r عليهم: قد أخذ ابن جرير وجماعة من الكرامية من هذه القصة: أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط وأن الله يخلق فيه أدراكاً بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم.
وذهب ابن حزم وابن هبيرة: إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسم.
 
وخالفهم الجمهور فقالوا:
تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للبدن بذلك اختصاص، ولا يمنع من كون الميت قد تتفرق أجزاؤه؛ ولأن الله تعالى قادر أن يعيد الحياة إلى جزء من الجسد ويقع عليه السؤال، كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه، والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه من إقعاد ولا غيره ولا ضيق ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب.
وجوابهم: أن ذلك غير ممتنع في القدرة، بل له نظير في العادة وهو النائم، فإنه يجد لذة وألماً لا يدركه جليسه، بل اليقظان قد يدرك ألماً أو لذة لما يسمعه أو يفكر فيه ـ ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله، والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك، وستره عنهم إبقاءً عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمر الملكوت إلا من شاء الله.
 
وقد ثبت بالأحاديث ما ذهب إليه الجمهور:
كقوله r: " إنه ليسمع خفق نعالهم "
وقوله:" فيضربانه بين أذنيه".
وقوله:" فيقعدانه تختلف أضلاعه". كل ذلك من صفات الأجساد. أهـ
وذهب أبو الهذيل ومن تبعه: إلى أن الميت لا يشعر بالتعذيب ولا بغيره إلا بين النفختين.
قالوا: وحاله كحال النائم أو المغشي عليه لا يحس بالضرب ولا بغيره إلا بعد الإفاقة.
والأحاديث الثابتة في السؤال حالة تولي أصحاب الميت عنه ترد عليهم.
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
"فلتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحياناً ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين. ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى"
   (الروح صـ 69).
ويقول ابن القيم أيضاً ـ كما في كتاب "الروح" صـ 85، 86:
" إن الله سبحانه جعل الدور ثلاثاً: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاماً تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعاً لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تبعاً لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا، فتألمت بألمها والتذَّت براحتها، وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة والأرواح خفية، والأبدان كالقبور لها والأرواح هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها تجرى أحكام البرزخ على الأرواح فتسرى إلى أبدانها نعيماً أو عذاباً، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيماً أو عذاباً، فأحط بهذا الموضع علماً وأعرفه كما ينبغي يزيل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج، وقد أرانا الله سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجاً في الدنيا من حال النائمين، فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجرى على روحه أصلاً، والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيراً مشاهداً، فيرى النائم في نومه أنه ضُرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل أو شَرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فِيِه، ويذهب عنه الجوع والظمأ... وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش، ويدافع كأنه يقظان، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس، فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع، فهكذا في البرزخ بل أعظم، فإن تجرد الروح هناك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً أصلاً، ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبيَّن لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمِّه، وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أُتى. كما قيل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
وآفته من الـفـهـم السقيـم
 وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه. وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه، وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر، فأمر البرزخ أعجب من ذلك.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى (4/282)
لمَّا سُئل عن هذه المسألة:
الحمد لله رب العالمين، بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها.
فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون للروح منفردة عن البدن.
ثم قال ـ رحمه الله ـ: فليعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه، وأن الروح تبقي بعد مفارقة البدن مُنعَّمة أو مُعذَّبة، وأنها تتصل بالبدن أحياناً فيحصل له معها النعيم والعذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها، وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
ثم استدل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ بقول النبي r في حال الكافر أو الفاجر وفيه:
" ثم يضرب بمطرقة من حديدٍ ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحةً يسمعها من يليه إلا الثقلين"                                                                     (أخرجه البخاري ومسلم)
والضَرْبُ بين الأُذنين يكون للبدن؛ فيحصل الألم للروح والبدن.
وعند الترمذي: " ثم يُقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه، حتى تختلف فيها أضلاعه فلا يزال مُعذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك".
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ:
وفي هذا الحديث اختلاف أضلاعه... وغير ذلك، مما يبين أن البدن نفسه يُعذب.
وذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ جملة من الأحاديث تدل على هذا المعنى ثم قال:
ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه، وإما انفراد الروح وحدها.
فقد أخرج النسائي بسند صحيح عن كعب بن مالك أن النبي r قال:
"إنما نَسَمَةُ المؤمن طائرٌ يَعْلُقُ في شجر الجنة، حتى يبعثه الله U إلى جسده يوم القيامة". وقوله: "يعلُقُ" بالضم أي: يأكل وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
ثم قال شيخ الإسلام: فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر إذا شاء الله، وإنما تنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حق.
وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب " ذكر الموت" عن مالك بن أنسٍ قال:
" بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت"
س: هل هناك مَن يسمع عذاب أهل القبور؟
جـ: إن الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا شاء أطْلَعَ بعض عباده في دار الدنيا على عذاب أهل القبور:
وقد أعطى الله رسوله القدرة على سماع المعذبين في قبورهم،
ففي الحديث الذي يرويه مسلم في " صحيحه" عن زيد بن ثابت t قال:
" بينما النبي r في حائط لبني النجار على بغلة له، ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال:" مَن يعرف أصحاب هذه الأقبر؟"
فقال رجل: أنا، قال: " فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال:" إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه"
ـ حادت به: أي مالت عن الطريق ونفرت.
ـ أن لا تدافنوا: أي مخافة أن لا تدافنوا.
وفي صحيحي البخاري ومسلم وسنن النسائي عن أبى أيوب الأنصاريt:
" خرج رسول الله r بعدما غربت الشمس، فسمع صوتاً، فقال:" يهودٌ تُعذَّب في قبورها".
ـ ويدل على سماع الرسول r للمعذَّبين في قبورهم
الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وفيه:
"أن الرسول r مرَّ بقبرين، فقال:" إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير..." الحديث.
وعذاب القبر تسمعه البهائم أيضاً.
وقد مر بنا في الحديث السابق والذي رواه مسلم عن زيد بن ثابت:
"بينما النبي r في حائط لبنى النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت أن تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة..."
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ في هذا الحديث كما جاء في كتاب "التذكرة" صـ 163:
وإنما حادت به البغلة لمَّا سمِعت من صوت المعذَّبين، وإنما لم يسمعه من يعقل من الجن والأنس لقوله r: لولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر"
وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:
" دخلتْ عليَّ عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يُعذَّبون في قبورهم، قالت: فكذَّبتُها، ولم أنعم أن أصدقها، قالت: فخرجت ودخل عليَّ رسول الله r فقلت: يا رسول الله، إن عجوزاً من عجائز يهود أهل المدينة دخلت فزعمت أن أهل القبور يُعذَّبون في قبورهم، قال: صَدَقَت إنهم يُعذَّبون عذاباً تسمعه البهائم كلها، قالت: فما رأيته بعدُ في صلاة إلا يَتعوَّذ من عذاب القبر".
قال ابن القيم كما في كتاب "الروح" صـ 72: وقال بعض أهل العلم:
ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مَغَلَت إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعيلية، والنصيرية، والقرامطة من بني عبيد... وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإن أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك كما يقصدون قبور اليهود والنصارى، قال: فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث لها ذلك فزعاً وحرارة تذهب بالمغل.
ـ المغل: مغص يصيب الدواب إذا أكلت التراب مع العلف.
وقد قال عبد الحق الإشبيلي:
"حدثني الفقيه أبو الحكم بن برخان ـ وكان من أهل العلم والعمل ـ أنهم دفنوا ميتاً بقريتهم في شرق إشبيلية، فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون ودابة ترعى قريباً منهم، فإذا بالدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع، ثم ولَّت فارَّة، ثم عادت إلى القبر، فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع، ثم ولت فارَّة، فعلت ذلك مرة بعد أخرى، قال أبو الحكم: فذكرت عذاب القبر، وقول النبي r: " إنهم ليُعذَّبون عذاباً تسمعه البهائم"                (الروح صـ 70 ـ 71)
س: هل يصل نعيم أو عذاب القبر لمن أكلته السباع، أو مات غريقاً، أو حريقاً، أو مصلوباً ويجري عليه ما يجري على المقبور في قبره؟
جـ: قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في كتاب "الروح" صـ 78:
ومما ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل مَن مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قُبر أو يُقْبر، فلو أكلته السباع، أو أحرق حتى رماداً، ونُسف في الهواء، أو صُلِب، أو غرق في البحر وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور"
وقال الإمام ابن القيم أيضاً كما في كتاب "الروح" صـ 98، 99:
"إنه ينبغي أن يُعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، وقال تعالى: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }(المؤمنون:100)، وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة، وسمى عذاب القبر ونعيمه وأنه روضة أو حفرة نار، باعتبار غالب الخلق. فالمصلوب والحرق والغرق وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله، وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما، فقد ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار وصار رماداً، وذرى بعضه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الريح أنه ينجو من ذلك، فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: قم فإذا هو قائم بين يدي الله، فسأله ما حملك على ما فعلت؟ فقال: خشيتك يا رب وأنت أعلم، فما تلافاه أن رحمه، فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه لهذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال، حتى لو عُلِّق الميت على رءوس الأشجار في مهاب الرياح لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه ونصيبه، ولو دُفن الرجل الصالح في أتون من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه، فيجعل الله النار على هذا برداً وسلاماً، والهواء على ذلك ناراً وسموماً، فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها يُصرِّفها كيف يشاء، ولا يستعصي عليها منها شيء أراده، بل هي طوع مشيئته مذللة منقادة لقدرته، ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين وكفر به وأنكر ربوبيته".
س: هل النار التي في القبر من نار الدنيا؟
يجيب عن هذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث قال كما في كتابه "الروح" صـ 89:
إن النار التي في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا ولا من زروع الدنيا، فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرها، وهي أشد من نار الدنيا، فلا يحس به أهل الدنيا. فإن الله سبحانه يحمى عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، ولو مسَّها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك. بل أعجب من هذا أن الرجلين يُدفنان أحدهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، وذلك في روضة من رياض الجنة لا يصل روحها ونعيمها إلى جاره, وقدرة الرب تعالى أوسع وأعجب من ذلك، وقد أرانا الله من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك بكثير، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تُحط به علماً إلا من وفَّقه الله وعصمه، فيفرش للكافر لوحان من نار فيشتعل عليه قبره بهما كما يشتعل التنور، فإذا شاء الله سبحانه أن يُطلع على ذلك بعض عبيده أطلعه وغيبه عن غيره، إذا لو اطَّلع العِباد كلهم لزالت كلمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس
كما في " الصحيحين " عنه r:
" لولا أن لا تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمعكم من عذاب القبر ما أسمع"
وقال ابن القيم أيضاً كما في "الروح" صـ 100:
عذاب البرزخ ونعيمه أول عذاب الآخرة ونعيمها، وهو مشتق منه وواصل إلى أهل البرزخ هناك
كما دل عليه القرآن والسنة الصحيحة الصريحة في غير موضع دلالة صريحة.
كقول النبي r: " فيُفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها ونعيمها، وفي الفاجر "فيفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرِّها وسمُومِها".
ومعلوم قطعاً أن البدن يأخذ حظه من هذا الباب كما تأخذ الروح حظها.
س: ما هو النعيم الذي ينتظر المؤمن في قبره، والعذب الذي ينتظر غيره من العصاة؟
فالمؤمن ينتقل في قبره من نعيم إلى نعيم.
فأول نعيم يلقاه في قبره: أن الله (جل وعلا) يُثبِّته عند سؤال الملكين.. قال تعالى:
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ}(إبراهيم: 27)
ويرى المؤمن في قبره (النار) التي وقاه الله منها، ويرى مقعده ومكانه في الجنة، ويُنوِّر الله له قبره، ويفسح له في قبره، بل وينام المؤمن في قبره أطيب نومة، ويكون في قمة شوقه لمن يبشر أهله بالنعيم الذي يجده في قبره.
قال r كما في مسند الإمام أحمد:
" لما أصيب إخوانكم بأُحُد، جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب، معلقة في ظل العرش، فلمَّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنَّا أحياء نُرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله تعالى:" أنا أبلغهم عنكم"                (صحيح الجامع: 5205)
بل إن أعماله الصالحة تُمثَّل له وتؤنسه في قبره، كما جاء في حديث البراء:
" أنه يُمثل له رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت تُوعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، مَن أنت. فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح".
بل إن الله يملأ عليه قبره خضراً إلى يوم يُبعثون. كما جاء في الحديث:
"... ويُفسح له في قبره ويُملأ عليه خضراً إلى يوم يُبعثون"
ويُفرش له قبره من الجنة، كما في حديث البراء:
" فينادى منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرِشُوه من الجنة وألبسوه من الجنة".
ويُبشر بصلاح ولده في قبره. قال مجاهد:" إن الرجل ليُبشَّر بصلاح ولده في قبره".
أما الصنف الآخر: فينادَى عليه من السماء: أن كذب عبدي ويا له من خزي ويا له من عذاب... ثم يُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويمتليء عليه قبره ظُلمة... ويُفرش له قبره من النار ويُسلَّط عليه التنين الذي يلسعه وينهشه.. بل ويُضرب بمطراق حتى يصير تراباً، ثم يعيده الله كما كان... ويمثل له عمله في قبره، كما جاء في  حديث البراء:
" ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه.. فيقول أنا عملك الخبيث." فنسأل الله العفو والعافية.        
س: هل يتنوع عذاب القبر، أم أنه ثابت لا يتغير؟
جـ: عذاب القبر يتنوع من مقبور لآخر:
ـ فهناك من يُضرب بمطراق من حديد
كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري:
"ثم يُضرب بمطراق من حديد بين أُذنيه، فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين" وعن أحمد: " ثم يقبض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان تراباً"

ـ وهناك من تنهشه الحيات العظيمة
كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وابن حبان والديلمي:
" يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنيناً تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة فلو أن تنيناً منها نفخت في الأرض ما أنبت خضراً."       ـ التنين: الحية العظيمة.

ـ وهناك من يُضيَّق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه.
ـ وهناك من يُفرش له من النار.
ـ وهناك من يُمثَّل له عمله الخبيث على هيئة رجل قبيح الوجه والثياب منتن الريح.
ـ وهناك من يشرشر شدقه ومنخره وعينه إلى قفاه بالكلوب (الكذاب)
ـ وهناك من يسبح في بحر الدم، ويُلقم الحجر ( آكل الربا)
ـ وهناك من يحبسون في تنور وتقاد عليهم النار أسفل منهم ( الزُناة والزواني)
ـ وهناك من يُثلع رأسه بالحجر ( الذي ينام عن الصلاة المكتوبة، ويهجر القرآن بعد تعلمه)
ـ وهناك من تشتعل عليه الشملة ناراً في قبره  ( الغلول من الغنيمة)
ـ وهناك من يُعلَّق بعرقوبه مشقق شدقه ( الذين يفطرون قبل تحلة صومهم )
ـ وهناك من تنهش الحيات ثديها ( التي تمتنع عن إرضاع الأولاد بغير عذر)
س: هل عذاب القبر دائم أم منقطع؟
جـ: قال الإمام ابن القيم: جوابها له نوعان:-
النوع الأول: نوع دائم:
ويدل على دوامه قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } (غافر:46)، ويدل عليه ما تقدم في حديث سمرة الذي رواه البخاري في رؤيا النبي r فيه:
" فهو يُفعل به ذلك إلى يوم القيامة"
وفي حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ  في قصة الجريدتين:
"لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا".  فجعل التخفيف مقيداً بمدة رطوبتهما فقط.
وفي حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة t:
" ثم أتى على قوم تُرضخ رءوسهم بالصخر كلما رضخت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء" وقد تقدم. وفي" الصحيح" في قصة الذي لبس بُردين وجعل يمشى يتبختر فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة "
ـ وفي حديث البراء بن عازب في قصة الكافر:
" ثم يُفتح له باب إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة".
رواه الإمام أحمد في بعض طرقه:
"ثم يُخرق له خرقاً إلى النار، فيأتيه من غمها ودخانها إلى يوم القيامة".
النوع الثاني: إلى مدة ثم ينقطع:
وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم فيعذب بحسب جرمه، ثم يُخفَّف عنه كما يُعذَّب في النار مدة، ثم يزول عنه العذاب. وقد ينقطع عنه العذاب بدعاء، أو صدقة، أو استغفار، أو ثواب حج، أو قراءة تصل إليه من بعض أقاربه أو غيرهم ـ فيه نظر، فقد ذهب ابن القيم: إلى وصول ثواب القراءة من الغير للميت وهذا مرجوح، والراجح: أنها لا تصل ـ وهذا كما يشفع الشافع في المعذب في الدنيا، فيخلص من العذاب بشفاعته، ولكن هذه شفاعة قد لا تكون بذلك بإذن المشفوع عنده، والله I لا يتقدم أحد بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع إذا أراد أن يرحم المشفوع له، ولا تغتر بغير هذا، فإنه شرك وباطل يتعالى الله عنه{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }
                                                                                                                      (البقرة:255)
{... وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى }(الأنبياء:28)، {... مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ }(يونس:3)
{وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ}(سبأ:23)، { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الزمر:44).      
  ( الروح صـ 119، 120 المسألة الرابعة عشر)
ويقول الحافظ ابن حجرـ رحمه الله ـ:
" والعذاب يستمر إذا كان العبد كافراً أو منافقاً نفاق كفر، وإن كان مسلماً عاصياً فيخلتف باختلاف كبر المعصية وصغرها، وحصول العفو عن بعض العصاة دون بعض، فقد يُعذَّب بعض العصاة، وقد لا يستمر التعذيب على بعض العصاة، وقد يُرفع عن بعض.
وهذا ما قرَّره ابن أبي العز في "شرح الطحاوية" صـ 401 حيث أجاب عن السؤال السابق فقال: جوابه: أنه نوعان:-  
الأول: منه ما هو دائم، كما قال تعالى:
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}  (غافر: 46)
وكذلك في حديث البرَّاء بن عازب في قصة الكافر:
" ثم يُفتح له باب إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة "
    (رواه أحمد في بعض طرقه)
الثاني: أنه مدة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفَّت جرائمهم، فيُعذَّب بحسب جرمه ثم يُخفَّف عنه.
إشكال والرد عليه:
مر بنا أن الكافر والمنافق يستمر عذابه إلى يوم القيامة ولا يتوقف، كما قال تعالى:
{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } (غافر:46)، لكن أليس هذا يتعارض مع قوله تعالى حكاية عن الكافرين: { يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}( يس: 52)
حيث بيَّنت الآية أنهم كانوا نائمين لا يشعرون بشيء.
والرد على هذا ـ كما قال أهل العلم ـ: إن هذه النومة تكون بين النفختين
قال الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ في تفسيره هذه الآية: (10/450):
هؤلاء المشركون لما نُفخ في الصور نفخة البعث لموقف القيامة فرُدَّت أرواحهم إلى أجسامهم، وذلك بعد نومة ناموها، وذلك قوله تعالى حكاية عنهم: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا}
  ( يس: 52)  
وقد قيل إن ذلك نومة بين النفختين.
وقال العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" (6/489):
والتحقيق أن هذا قول الكفار عند البعث، والآية تدل دلالة لا لبس فيها على أنهم ينامون نومة قبل البعث، كما قال غير واحد، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت، يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان: { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}، أي هذا البعث بعد الموت. " أهـ.
وقد بيَّن النبي r أن هناك مدة من الزمان بين النفختين:
فقد أخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t أن النبي r قال:
"ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق".
وفي هذا الحديث دلالة على أنهم يموتون بين النفختين مقدار أربعون، ولم تحدد تلك الأربعون.
ويدل على ذلك أيضاً الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة t أن النبي r قال:
"لا تخيروني على موسى، فإن الناس يُصعَقُون يوم القيامة، فأصعق معهم فأكونُ أوَّل من يُفيق، فإذا بموسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صَعِقَ فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله".
إذا الآيات والأحاديث الدالة على استمرار العذاب من باب العموم، وقد خصصت بآية " يس" والأحاديث السابقة الذكر في هذا القول.
ملحوظة:
ذهب بعض أهل العلم: إلى أن العذاب مستمر غير منقطع إلى قيام الساعة، وليس هناك نوم. والمقصود من الآية: أن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم، ولكن المعنى الأول أظهر وأرجح.
س: ماذا يُعْرض على الميت في قبره؟
جـ: والجواب أنه يعرض عليه ويشاهد مقعده بالغداة والعشي.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ  أن رسول الله r قال:
" إن أحدكم إذا مات عُرِض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة."

س: ما الحكمة من عذاب القبر ونعيمه؟
جـ: هناك مجموعة من الحكم من عذاب القبر ونعيمه منها:
1. إظهار فضل الله تعالى على عباده المؤمنين الصالحين في تنعيمهم في الحياة البرزخية، وإذلال وتعذيب المكذبين العاصين والعياذ بالله.
2. إظهار قدرة الله تعالى في تعذيب العصاة والكافرين، وتنعيم المؤمنين الصادقين في القبر دون أن يشعر بذلك سائر البشر.
3. أن المكلفين عندما يعلمون أن هناك عذاباً في القبر أو في الحياة البرزخية، فإن ذلك يكون رادعاً ومانعاً لهم عما يسوء ويشين فعله في الآخرة.
4. التحذير من بعض الذنوب والمعاصي، والتي يكون لها عُقوبات خاصة تناسبها، كعدم التنزه من البول والنميمة... وغير ذلك.
5. قد يكون العذاب في القبر مُكفِّراً لبعض الذنوب والمعاصي التي ألَّم بها العبد في الحياة الدنيا، فيأتي يوم القيامة ولا ذنب له.
6.    قد يكون العذاب في القبر تخفيفاً لعقوبة ذلك العبد في النار يوم القيامة.
                       (دراسات عقدية في الحياة البرزخية صـ 358)
س: هل الموتى يسمعون كلام الأحياء؟
جـ: اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: ذهب إلى نفي سماع الأموات للأحياء.
وهو رأي السيدة عائشة وابن عباس وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ وغير واحد من الصحابة وهو مذهب الجمهور.
وهو قول ابن عابدين، وابن الهمام، وابن نجيم، والحصفكي، وغيرهم من أئمة الأحناف، والمازري والباجي والقاضي عياض من المالكية، والقاضي أبو يعلى من الحنابلة، ومالَ إليه الشيخ الألباني في تحقيقه "للآيات البيِّنات في عدم سماع الأموات"، ورجَّح ذلك أيضاً ابن باز وابن عثيمين-رحمهم الله- ودليلهم:-
الدليل الأول: قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}  ( النمل:80)
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية (21/36):
هذا مَثَلٌ معناه فإنك لا تقدر أن تُفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم، فسلبهم فهم ما يُتلى عليهم من مواعظ تنزيله، كما لا تقدر أن تُفهم الموتى الذين سلبهم الله أسماعهم بأن تجعل لهم أسماعاً.
ثم روى بإسناده الصحيح عن قتادة قال:
هذا مَثَلٌ ضربه الله للكافر، فكما لا يسمع الميت الدعاء كذلك لا يسمع الكافر،{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء}  أي لو أن أصمَّاً ولى مدبراً ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما سمع.
ـ فثبت من هذه النقول عن كتب التفسير المعتمدة أن الموتى في قبورهم لا يسمعون كالصم إذا ولوا مدبرين.
ـ وهذا الذي فهمته عائشة ـ رضي الله عنها ـ واشتهر ذلك عنها في كتب السنة وغيرها
ـ وهذا الذي فهمه عمر بن الخطاب أيضاً.                             (انظر فتاوى اللجنة الدائمة: 9216)

الدليل الثاني: قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ{13} إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}
                                                                                                                     (فاطر:13،14)
ووجه الدلالة من الآية: أن الصالحين لا يسمعون بعد موتهم، وغيرهم مثلهم بداهة، بل ذلك من باب أولى كما لا يخفى، فالموتى كلهم إذن لا يسمعون.
الدليل الثالث: حديث قليب بدر
والحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ  قال:
" وقف النبي r على قَليب بدرٍ فقال: هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ ثم قال: إنهم الآن يسمعون ما أقول، فذُكِر لعائشة فقالت: إنما قال النبي r: إنهم الآن يعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}حتى قرأت الآية".
وعند البخاري ومسلم أيضاً من حديث أبى طلحة t:
" أن نبي الله r أمر يوم بدرٍ بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طويٍّ من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليالي، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركى، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ ! فقال عمر: يا رسول الله..
ما تُكلِّم من أجساد لا أرواح فيها؟ فقال رسول الله r: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع مما أقول منهم".
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخاً، وتصغيراً ونقمة وحدة وندماً.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث يتضح ملاحظة أمرين:-
الأول: ما في الرواية الأولى من تقييده r سماع موتى القليب بقوله: " الآن" فإن مفهومه أنهم لا يسمعون في غير هذا الوقت وهو المطلـوب. وهذه الفائدة نبَّه عليها العلامة الألوسي في كتـابه "روح المعاني" (6/455):
ففيه تنبيه قوى على أن الأصل في الموتى أنهم لا يسمعون"
 
الأمر الآخر: أن النبي r أقرَّ عمر وغيره من الصحابة على ما كان مستقراً في نفوسهم واعتقادهم أن الموتى لا يسمعون، فقد قالوا للنبي r: "ما تكلِّم من أجساد لا أرواح فيها؟"
وجاء في مسند الإمام أحمد عن أنس t قال:
" فسمع عمر صوته فقال: يا رسول الله أتناديهم بعد ثلاث؟ وهل يسمعون؟ 
يقول الله U: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا " .
ومن هذا يتضح أن النبي r أقر الصحابة ـ وفي مقدمتهم عمرـ على فهمهم للآية على ذلك الوجه العام الشامل لموتى القليب وغيرهم؛ لأنه لم ينكره عليهم، ولا قال لهم: "أخطأتم" فالآية لا تنفي مطلقاً سماع الموتى، بل إنه أقرهم على ذلك، ولكن بيَّن لهم ما كان خافياً عليهم في شأن القليب، وأنهم سمعوا كلامه حقاً، وأن ذلك أمر خاص مستثنى من الآية معجزة له r.
يقول قتادة ـ رحمه الله ـ أحد رواة الحديث ـ:
أحياهم الله حتى أسمعهم توبيخاً، وتصغيراً، ونقمة، وحسرة، وندامة.

الدليل الرابع:
ما أخرجه الإمام أحمد أن النبي r قال:
"إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبلغوني عن أمتي السلام "
ووجه الاستدلال به أنه صريح في أن النبي r لا يسمع سلام المسلمين عليه، إذ لو كان يسمعه بنفسه لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه، كما هو ظاهر لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى.
وإذا كان الأمر كذلك فبالأولى أنه r لا يسمع غير السلام من الكلام، وإذا كان كذلك فلأن يسمع السلام غيره من الموتى أولى وأحرى، ثم إن الحديث مطلق يشمل حتى مَن سلَّم عليه r عند قبره
قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ:
لم أرَ مَن صرح بأن الميت يسمع سماعاً مطلقاً كما كان شأنه في حياته ولا أظن عالماً يقول به.
القول الثاني:
ذهب فريق من أهل العلم:  إلى أن الموتى يسمعون في الجملة ولا يسمعون في كل الأحوال..
وهناك فريق آخر رأي: أنهم يسمعون في كل الأحوال، لكنهم لا يستطيعون الانتفاع بما يسمعونه أو حتى مجرد الردِّ.
قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في كتابه "الروح" صـ 60:
وأما قوله تعالى: { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} ( فاطر: 22)، فسياق الآية يدل على أن المراد منها:
أن الكافر الميت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعاً ينتفع به، كما أن مَن في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعاً ينتفعون به، ولم يُرد سبحانه أن أصحاب القبور لا يسمعون شيئاً البتة، كيف وقد أخبر النبي r أنهم يسمعون خفق نعال المشيعين؟ وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه. وشُرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع. وأخبر أن مَن سلَّم على أخيه المؤمن ردَّ عليه
السلام وهذه الآية نظير قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}( النمل:80)،
وقد يقال نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى، يدل على أن المراد عدم أهلية كل منهما للسماع.وأن قلوب هؤلاء لما كانت ميتة صمَّاء كان إسماعها ممتنعاً بمنزلة خطاب الميت والأصم، وهذا حق ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما. فهذا غير الإسماع المنفي. والله أعلم.
وحقيقة المعنى أنك لا تستطيع أن تُسمع من لم يشأ الله أن يُسمعه الله، {إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ }(فاطر:23)  
أي: إنما جعل الله لك الاستطاعة على الإنذار الذي كلفك إياه لا على إسماع من لم يشأ الله إسماعه"
وقال الشيخ عمر الأشقر في " القيامة الصغرى":
" ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الميت يسمع قرع نعال أصحابه، بعد وضعه في قبره،
فعن أنس بن مالك t أن رسول الله r قال:
" إن العبد إذا وُضِع في قبره، وتولَّى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم.." (مسلم)
ووقف الرسول r بعد ثلاثة أيام من معركة بدر على قتلى بدر من المشركين فنادي رجالاً منه، فقال:
" يا أبا جهل بن هشام، يا أميَّة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربى حقاً" فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، كيف يسمعوا؟ أنَّى يجيبوا وقد جيفوا؟! قال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" ثم أمر فسُحبوا، فألقوا في قليب بدر"                                                                                                                      (البخاري)
واستدل فريق من أهل العلم بهذا الحديث:
على أن الموتى يسمعون. وممن ذهب إلى ذلك: ابن جرير الطبري وابن قتيبة وغيره من العلماء.
وقال ابن أبى العز شارح الطحاوية صـ 85:
من قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده باعتبار سماعه كلام الله، فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين، ولاشك في سماعه، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرر ويتألم لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير.
وقد ساق ابن تيمية جملة من الأحاديث التي تدل على أن الموتى يسمعون، ثم قال:
" فهذه النصوص وأمثالها تُبيِّن أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا يجب أن يكون السمع له دائماً، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي فإنه يسمع أحياناً خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له"                                                                 (مجموع الفتاوى: 5/366)
وقد أجاب شيخ الإسلام على إشكال من يقول: "إن الله نفي السماع عن الميت" في قوله:
{فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } (الروم:52)، وكيف تزعمون أن الموتى يسمعون؟ فقال:" وهذا السمع سمع إدراك ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } (الروم:52)،
فإن المراد بذلك: سمع القبول والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفقه المعنى، فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى، فإنه لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أُمر به ونُهي عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهى، وإن سمع الخطاب وفهم المعنى، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ } (الأنفال:23)، وقد جاءت النصوص دالة أيضاً على أن الميت مع سماعه يتكلم، فإن منكراً ونكيراً يسألونه، فالمؤمن يوفَّق للجواب الحق، والكافر والمنافق يضلُّ عن الجواب، ويتكلم أيضاً في غير سؤال منكر ونكير، وكل هذا مخالف لما عهده أهل الدنيا من كلام، فإن الذي يسأل ويتكلم الروح، وهي التي تجيب وتقعد وتُعذب وتُنعَّم. وإن كان لها نوع اتصال بالجسد، وقد سبق القول أن بعض الناس قد يسمعون الكلمة من الميت، وأن الرسول r كان يسمع من هذا شيئاً كثيراً.                  
( مجموع الفتاوى 5/364)
وأيضاً استدل هذا الفريق بحديث الدعاء عند دخول المقابر وهو:
" السلام عليكم دار قوم... " .. الحديث، وقالوا: لا يكون السلام إلا على مَن يسمعون.
والرد: إن هذا استدلال نظري استنباطي، ولا يدل الحديث على التصريح بسماعهم
وأيضاً المقصود من السلام هو طلب الرحمة للموتى، فالمقصود من السلام عليهم الدعاء لا الخطاب.
وحاول البعض الجمع بين حديث ابن عمر وهو محادثة النبي r لأهل القليب، وبين حديث عائشة أنها أنكرت ذلك وقرأت عليهم قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى }
فقال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في "الفتح" (3/301):
إن الجمع بين حديث ابن عمر وعائشة بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسألة، وحينئذ كانت الروح قد أعيدت إلى الجسد". أهـ
وقال المناوي ـ رحمه الله ـ في فتح القدير:
"وأما الجمع بين قوله r: "أنه يسمع قرع نعالهم"، وقوله تعالى: { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} ( فاطر: 22)، أجيب بأن السماع في الحديث بخصوص أول الوضع في القبر مقدمة السؤال، فالحديث لا يدل على العموم".
والراجح في المسألة:
هو ما ذهب إليه الفريق الأول من عدم سماع الموتى، وهذا ما انتصر له الشيخ الألباني- رحمه الله-
فقال في مقدمة "الآيات البينات في عدم سماع الأموات" للألوسي ـ رحمه الله ـ:
وخلاصة البحث والتحقيق: أن الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال أئمة الحنفية وغيرهم:
على أن الموتى لا يسمعون وأن هذا هو الأصل.
فإذا ثبت أنهم يسمعون في بعض الأحوال كما في حديث خفق النعال، أو أن بعضهم سمع في وقت ما كما في حديث القليب، فلا ينبغي أن يجعل ذلك أصلاً، فيقال إن الموتى يسمعون، كلا فإنها قضايا جزئية لا تشكل قاعدة كلية يعارض بها الأصل المذكور، بل الحق أنه يجب أن تستثنى منه على قاعدة استثناء الأقل من الأكثر، أو الخاص من العام، كما هو مقرر في أصول الفقه،
ولذلك قال العلامة الألوسي في "روح المعاني" بعد بحث مستفيض في هذه المسألة (6/455):
والحق أن الموتى لا يسمعون في الجملة، فيقتصر على القول بسماع بما ورد السماع بسماعه.
وهذا مذهب طوائف من أهل العلم، كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي.
وما أحسن ما قاله ابن التين ـ رحمه الله ـ:
"إن الموتى لا يسمعون بلا شك، لكن إذا أراد الله تعالى إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع.
فإذا علمت أيها القارئ الكريم أن الموتى لا يسمعون فقد تبيَّن أنه لم يبق هناك مجال لمناداتهم من دون الله تعالى، ولو بطلب ما كانوا قادرين عليه وهم أحياء، بحكم كونهم لا يسمعون النداء، وأن مناداة من كان كذلك والطلب فيه سخافة في العقل وضلال في الدين،
وصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ{5} وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5 ـ 6)
وقال الطحطاوي في "حاشيته على الدر المختار" (2/381):
إن الميت لا يسمع ولا يفهم.
وقال ابن عابدين في كتابه "رد المحتار على الدر المختار" (3/180):
وأما الكلام: فالمقصود منه الإفهام والموت ينافيه: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى }، شبه فيه الكفار بالموتى لإفادة بُعد سماعهم وهو فرع عدم سماع الموتى.
وقال إمام الحنفية ابن الهمام في "فتح القدير حاشية الهداية":
وأكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع عندهم، وصرَّحوا به في كتاب "الإيمان" في باب اليمين بالضرب.
لو حلف لا يكلمه فكلمه ميتاً لا يحنث، لأنها تنعقد على ما بحيث يفهم والميت ليس كذلك لعدم السماع.
ولمزيد بيان في هذه المسألة راجع رسالة نعمان بن محمد الألوسي ـ رحمه الله ـ (ت:1317هـ) والرسالة بعنوان الآيات البينات في عدم سماع الأموات.
والخلاصة:
أن قوله تعالى: { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} ( فاطر: 22)، هذه قاعدة كونية عامة ثابتة لا تتغير، وهي أن الميت ـ أي ميت ـ لا يسمع إلا من جاء في حقه دليل خاص وفي حالات خاصة، فهذا خصوص يبقى معه العموم على حاله، فمن أين الدليل على أن الموتى يسمعون؟
وكذلك الموتى لا يدرون بما يحدث حولهم.
ففي حديث الحوض الذي يقول فيه النبي r:
" يا رب.. أمتي أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول النبي: سُحقاً سُحقاً، بُعداً بُعداً".
 ووجه هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتوى رقم (9216) وفيه:
س: قرأت في كتاب "الحاوي للفتاوى" للإمام السيوطي أن الميت يسمع كلام الناس، وثنائهم عليه، وقولهم فيه. كذلك يعرف من يزوره من الأحياء، وإن الموتى يتزاورون، فهل هذا حسن؟ فقد أعتمد على بعض الأحاديث وبعض الآثار وذلك في ج2/ 169، 170، 171؟.
جـ: الأصل عدم سماع الأموات كلام الأحياء إلا ما ورد في النص؛
لقول الله سبحانه يخاطب نبيه r: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } (الروم:52)
وقوله سبحانه: { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} ( فاطر: 22)
وبالله التوفيق، وصلَّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
                                                                                             (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء)
ملاحظة:
الحديث الذي أخرجه الخطيب في التاريخ عن أبي هريرة t مرفوعاً وفيه:
" ما من رجل يمرُّ بقبر رجلٍ كان يعرفه في الدنيا فيُسلِّم عليه إلا عرفه وردَّ عليه"
" ضعيف، قال ابن الجوزي: لا يصح"
س: هل الأرض تأكلُ جسد الميت كله أم يبقى منه شيء؟
والجواب: نعم إن الإنسان يبلى كله إلا جزء بسيط منه، وهي عظمة تسمى عجب الذنب.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة t أن النبي r قال:
"ليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب، ومنه يُركّب الخلق يوم القيامة".
وفي رواية لمسلم: "كلُ ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خُلق وفيه يُركّب".
قال النووي ـ رحمه الله ـ:
ـ عجب الذنب: هو عظم في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص،وهو العظم الذي بين الإليتين الذي في أسفل الصلب، وهو أول ما يخلق منه الآدمي وهو الذي يُركَّب منه.أهـ
 
تتمة للفائدة نذكر بعض الأمور التي لا يشملها الفناء وهى:
 الروح – الولدان المخلدون ـ الحور العين ـ القلم ـ اللوح المحفوظ ـ الجنة ـ النار ـ الكرسي ـ العرش ـ عجب الذنب ـ أجساد الأنبياء.
جاء في شرح " النونية الكافية الشافية " (1/97):
ثمـانية حكم البقـاء يعمّهـا
من الخلق والباقون في حيِّز العدم
هي العرش والكرسي ونار وجنة
وشجب وأرواح كذا الروح والقلم
ـ الشجب: الهلاك والحزن.
وقال الإمام ابن القيم في النونية: أيضاً ( 1/95ـ 96) شرح ابن عيسى:
والعرش والكرسي لا يفـنيهما
أيضاً وأنهمـا لمخلوقـان
والحـور لا تفنى كذلك جنة الـ
مأوى وما فيها من الولدان
ولأجل هذا قال جهم إنـــــها
عدم ولم تُخلق إلى ذا الآن
والأنبياء فإنهم تحت الثــــرى
أجسامهم حُفظت من الديدان
ما للبلى بلحومهم وجــسومهم
أبداً وهم تحت التراب يدان
وكذا عجب الظهر لا يـــبلى
بلى منه تُركَّب خلقة الإنسان

س: هل الأرض تأكل أجساد الأنبياء كباقي البشر؟
والجواب: كما مر بنا: لا، فإن الله U حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
أخرج أبو داود بسند صحيح عن أوس بن أوس قال: قال لي رسول الله r:
"إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ـ يقولون: بليت ـ فقال: إن الله قد حرم على الأرض أن تأكلَ أجساد الأنبياء ـ عليهم السلام ـ".
فهذا الأمر خاص بالأنبياء فقط، أما الشهداء فليس هناك ما ينص على ذلك.
إلا ما جاء في صحيح البخاري من حديث جابر t قال:
" لما حضر أُحُد دعاني أبي من الليل، فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول مَن يُقتَل مِن أصحاب رسول الله r، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك غير نفس رسول الله r، وإن علي ديناً فاقضِ، واستوص بإخوانك خيراً، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودُفِن معه في قبره آخر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته غير هُنَيَّةً في أذنه".
ـ هُنَيَّة: شيء من أذنه،  وقال الحافظ في "الفتح": إنها شعيرات كنّ في شحمة أذنه.
وجاء في شرح الطحاوية:
حرَّم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روى في السنن، وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدة من دفنه كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أن يبلى مع طول المدة. والله أعلم.
وكأنه والله أعلم كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل كان بقاء جسده أطول. أهـ
وقال الحافظ في "الفتح" ( 3/279) في الكلام على فضائل أبي جابر قال:
وفيه كرامته بكون الأرض لم تبلِ جسده مع لبثه فيها، والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة. أهـ
س: هل يُفتن غير المكلفين من الأطفال والمجانين في قبورهم؟
جـ: يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر كما في "القيامة الصغرى" صـ 47:
أنه جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (4/257): أن الفتنة عامة لجميع المكلفين، إلا النبيين فقد اختلف فيهم([1])، وإلا الشهداء والمرابطين... ونحوهم ممن جاءت النصوص دالة على نجاتهم من الفتنة.
واختلف في غير المكلفين من الصبيان والمجانين، فقد ذهب جمع من العلماء:
إلى أنهم لا يفتنون، وممن قال بهذا القاضي أبو يعلى وابن عقيل: ووجهة نظر هؤلاء أن المحنة تكون لم كلف، أما من رُفع عنه فلا يدخل في المحنة، إذ لا معنى لسؤاله عن شيء لم يكلف به.
وقال آخرون:
بل يفتنون، وهذا قول أبي الحكيم الهمداني وأبى الحسن ابن عبدوس. ونقله عن أصحاب الشافعي، وقد روى مالك وغيره عن أبي هريرة t:
"أن رسول الله r صلَّى على طفل فقال: اللهم قه عذاب القبر وفتنة القبر"،
وهذا القول موافق لقول من قال: إنهم يمتحنون في الآخرة، وأنهم مكلفون يوم القيامة.
كما هو قول أكثر أهل العلم وأهل السنة من أهل الحديث والكلام: وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة واختاره هو، وهذا مقتضى نصوص الإمام أحمد. أهـ
   (راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: 4/257-277)
قال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه "الروح" صـ 117، 119:
" أما المسألة الثالثة عشر: وهي أن الأطفال هل يُمتحنون في قبورهم؟
اختلف الناس في ذلك على قولين: هما وجهان لأصحاب أحمد.. وحجة من قال:
إنهم يسألون أنه يشرع الصلاة عليهم، والدعاء لهم، وسؤال الله أن يقيهم عذاب القبر وفتنة القبر.
كما ذكر مالك في موطئه عن أبي هريرة t:
"أن رسول الله r صلَّى على جنازة صبي فسُمع من دعائه: اللهم قه عذاب القبر"
واحتجوا بما رواه عليٌ بن معبد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ:
"أنه مرَّ عليها بجنازة صبي صغير، فقيل لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي، بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر".
 واحتجوا بما رواه هناد بن السري: ثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة t قال:
"إن كان ليُصلّى على المنفوس ما إن عمل خطيئة قط، فيقول: اللهم أجره من عذاب القبر. قالوا: والله سبحانه يكمل لهم عقولهم ليعرفوا بذلك منزلتهم ويُلهمون الجواب عما يُسألون عنه" قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي فيها أنهم يمتحنون في الآخرة.
وحكاه الأشعري عن أهل السنة والحديث:
"فإذا امتحنوا في الآخرة لم يمتنع امتحانهم في القبور"
وقد جاء في الحديث الذي أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة t:
"أن رسول الله r كان إذا صلَّى على جنازة يقول: اللهم اغفر لحيِّنا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييته منَّا فأحيه على الإسلام، ومن توفَّيته منا فتوفَّه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده".
قال الآخرون:السؤال إنما يكون لمن عقل الرسول والمرسل، فيسأل هل آمن بالرسول وأطاعه أم لا؟ فيقال له: "ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟" فأما الطفل الذي لا تمييز له بوجه ما، فكيف يقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟، ولو رُدَّ  إليه عقله في القبر، فإنه لا يُسأل عما لم يتمكن من معرفته والعلم به، ولا فائدة في هذا السؤال، وهذا بخلاف امتحانهم في الآخرة فإن الله سبحانه يرسل إليهم رسولاً ويأمرهم بطاعة أمره وعقولهم معهم، فمن أطاعه منهم نجا، ومن عصاه أدخله النار، فذلك امتحان بأمر يأمرهم به ويفعلونه ذلك الوقت، لا أنه سؤال عن أمر مضى لهم في الدنيا من طاعة أو عصيان، كسؤال الملكين في القبر.
وأما حديث أبى هريرةt: فليس المراد بعذاب القبر فيه عقوبة الطفل، على ترك طاعة أو فعل معصية قطعاً، فإن الله لا يعذب أحداً بلا ذنب عمله، بل عذاب القبر قد يراد به الألم الذي يحصل للميت بسبب غيره، وإن لم يكن عقوبةً على عمل عمله، ومنه قوله r:
" إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" أي: يتألم بذلك ويتوجع منه، لا أنه يعاقب بذنب الحي
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }(الأنعام:164)، وهذا كقول النبي r: " السفر قطعة من العذاب "
(البخاري ومسلم) 
فالعذاب أعم من العقوبة.
ولا ريب أن في القبر من الآلام والهموم والحسرات ما قد يسري أثره إلى الطفل، فيتألم به، فيشرع للمصلِّي عليه أن يسأل الله تعالى له أن يقيه ذلك العذاب. والله أعلم" أهـ
س: هل الأنبياء يُفتنون ويُسألون في قبورهم؟
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في كتابه "الروح" صـ 110:
وقد اختلف في الأنبياء: هل يسألون في قبورهم؟ على قولين:
وهما وجهان في مذهب أحمد وغيره.أهـ
والراجح أنهم لا يسألون.
فقد جاء في الحديث: " ما كنت تقول في هذا الرجل؟ يقصد النبي r "  
وكذلك حديث البراء بن عازب والذي أخرجه الإمام أحمد وفيه:
"ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟".
ومن هذين الدليلين يتبيَّن: أن السؤال عن الأنبياء، وأنهم بذلك لا يُسْألون بل يٌسأل عنهم.
وكذلك حديث جابر وهو في صحيح مسلم في حجة النبي r وفيه:
" وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟".
فهذه الرواية تفسر الروايات الأخرى. والله أعلم.
تنبيه:
وهناك جملة أيضاً من الذين لا يُفْتنون في قبورهم وهم:
1. من يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة من المسلمين.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ  عن النبي r قال:" ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاهُ الله فتنة القبر".

2. من مات مرابطاً في سبيل الله:
أخرج الترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبيد t عن رسول الله r قال:
" كل ميت يُختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله؟ فإنه يُنمَّى له عمله يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر" .
ـ الرباط: هو الملازمة في سبيل الله، مأخوذة من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطاً: فارساً كان أو راجلاً، واللفظه مأخوذة من الرباط.
3. من مات بداءِ البطن:
فقد أخرج النسائي والترمذي عن عبد الله بن يسار قال:
" كنت جالساً وسليمان بن صرد، وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً توفِّي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله r من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره؟ فقال الآخر: بلى ـ وفي رواية: " صدقت" ـ

4. من مات شهيداً في أرض المعركة:
فقد أخرج الترمذي وابن ماجة عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله r:
"للشهيد عند الله ست خصال: يُغْفَر له في أول دفعة، ويرى مقعده في الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويَأمَن الفزع الأكبر، ويُوضَع على رأسِهِ تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويُزوَّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين من أقربائه".
وأخرج النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب رسول الله r:
" أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟
قال: كفي  ببارقة السيوف على رأسه فتنة".


س: ما حــال الأنبيــاء في القبور؟
والجواب عن ذلك: أنهم أحياء يُصلُّون في قبورهم.
فقد أخرج البزار في مسند بسند صحيح عن ثابت البناني عن أنس t عن النبي r قال: " الأنبياء ـ صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يُصلُّون"  (السلسلة الصحيحة:2/187، ح 621)
وعن أنس بن مالك t أن رسول الله r قال:
" مررت على موسى، وهو قائم يصلى في قبره" وفي رواية: أتيت على موسى ليلة أُسريَ بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يُصلِّى في قبره"                  (مسلم)
وقد ألَّف البيهقي رسالة بعنوان "حياة الأنبياء في قبورهم" وقال في دلائل النبوة:
"الأنبياء أحياء عند ربهم كالشهداء"
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r:
" لقد رأيتني في الحجر وأنا أُخبر قريشاً عن مسراي، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كرباً ما كربت مثله قط، فرفعه الله U لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة الأنبياء، فإذا موسى قائم يُصلِّي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم قائم يُصلِّي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يُصلِّي أشبه الناس به صاحبكم ـ يعنى: نفسه ـ فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد هذا مالك صاحب النار فسلِّم عليه، فألتفت إليه فبدأني بالسلام"                     (مسلم)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في "مجموع الفتاوى":
" وأما كونه رأى موسى قائماً يُصلِّي في قبره، ورآه في السماء أيضاً، فهذا لا منافاة بينهما، فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة في اللحظة الواحدة تصعد وتهبط كالملك، ليست في ذلك كالبدن.
وهذه الصلاة ونحوهما مما يتمتع بها الميت، ويتنعم بها، كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح، فإنهم يُلهمون التسبيح كما يلهم الناس في الدنيا النَفَس، فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به.
وقول النبي r: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له"
يريد به العمل الذي يكون له ثواب، ويتنعَّمون بذكره وتسبيحه، ويتنعمون بقراءة القرآن، ويُقال لقاريء القرآن: اقرأ وارق ورتِّل كما كنت ترتِّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها. ويتنعَّمون بمخاطبتهم لربهم ومناجاته، وإن كانت هذه الأمور في الدنيا أعمالاً يترتب عليها الثواب فهي في الآخرة أعمال يتنعم بها صاحبها أعظم من أكله وشربه ونكاحه، وهذه كلها أعمال أيضاً، والأكل والشرب والنكاح في الدنيا مما يؤمر به ويُثاب عليه مع النية الصالحة، وهو في الآخرة نفس الثواب الذي يتنعم به.  والله أعلم.  
وقد أنكر ابن التين كون الموتى يُصلُّون
وقد ردَّ على ذلك الشيخ الألباني كما في "أحكام الجنائز" صـ 272 فقال:
وقول ابن التين: " الموتى لا يُصلُّون" ليس بصحيح؛ لأنه لم يرد نصٌّ في الشرع بنفي ذلك، وهو من الأمور الغيبية التي لا ينبغي البت فيها إلا بنص وذلك مفقود، بل قد جاء ما يُبطل إطلاق به وهو صلاة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في قبره كما رآه رسول الله r ليلة أُسريَ به على ما رواه مسلم في صحيحه، وكذلك صلاة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مقتدين به في تلك الليلة
كما ثبت في الصحيح، بل ثبت عنه أنه قال: " الأنبياء أحياء في قبورهم يُصلُّون"
وأخرج أبو نعيم  في " الحلية " عن سعيد بن جبير قال:
" أنا ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ أدخلت ثابتاً البناني لحده، ومعي حميد الطويل، فلما سوينا عليه اللبن، سقطت لبنة، فإذا أنا به يُصلِّي في قبره، وكان يقول في دعائه: " اللهم إن كنت أعطيت أحداً من خلقك الصلاة في قبره فأعطينيها، فما كان الله تعالى ليرد دعاءه"
وقد كان ثابت البناني دائماً ما كان يدعو بهذا الدعاء.
وقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" بسند صحيح عن يوسف بن عطية قال:
"سمعت ثابتأً يقول لحميد الطويل: هل بلغك أن أحداً يُصلِّي في قبره إلا الأنبياء؟ قال: لا، قال: ثابت: اللهم إن أذنت لأحد أن يُصلِّي في قبره، فَأْذن لثابت أن يُصلِّي في قبره."
وأخرج ابن سعد في " الطبقات" وابن أبي شيبة في " المسند " عن ثابت البناني قال:
" اللهم إن كنت أعطيت أحداً الصلاة في قبره فأعطني الصلاة في قبري".
س: ما مصير أطفال المسلمين الذين ماتوا في الصغر؟
والجواب: أنهم في الجنة.
" عن أبي هريرة t عن النبي r قال:
" ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيم u في الجنة"                    (أحمد والحاكم وابن حبان).
وعن أبي هريرة t عن النبي r قال:
" أولاد المسلمين في جبل في الجنة، يكفلهم إبراهيم وسارة ـ عليهما السلام ـ فإذا كان يوم القيامة دُفعوا إلى آبائهم"                                                         (الحاكم)
وذهبت طائفة: إلى أنه يُشهَد لأطفال المؤمنين عموماً أنهم في الجنة ولا يُشهد لآحادهم، كما يشهد للمؤمنين عموماً أنهم في الجنة، ولا يشهد لآحادهم وهو قول إسحاق بن راهويه، نقله عن إسحاق بن منصور وحرب في مسائلهما.
ولعل هذا يرجع إلى الطفل المعين لا يُشهَد لأبيه بالإيمان، فلا يُشهَد له حينئذ أنه من أطفال المؤمنين، فيكون الوقف في آحادهم كالوقف في إيمان آبائهم.
وحكى ابن عبد البر عن طائفة من السلف:  القول بالوقف في أطفال المؤمنين.
واستدل القائلون بالوقف، بما أخرجه مسلم من حديث فضيل بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنهاـ قالت:
"توفِّي صبيٌ، فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة. فقال رسول الله :r "أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً"
ويعارض هذا ما خرَّجه مسلم، من حديث أبي السليل، عن أبى حسان، قال:
"قلت لأبى هريرة t: إنه قد مات لي ابنتان، فما أنت محدثي عن رسول الله r بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا، قال: نعم، صغارهم دعاميص أهل الجنة، يتلقَّى أحدهم أباه ـ أو قال أبويه ـ فيأخذ بثوبه، أو قال بيده: فلا ينتهي حتى يُدخله الله وأباه الجنة"                                                                          
(مسلم)
وفي " الصحيحين " عن أنس t، عن النبي r قال:
" ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم"
ولهذا قال الإمام أحمد:
هو يرجى لأبويه، فكيف يُشك فيه. يعنى: أنه يرجى لأبويه بسببه دخول الجنة.
ولعل النبي r نهى أولاً عن الشهادة لأطفال المسلمين بالجنة قبل أن يطَّلع على ذلك؛ لأن الشهادة على ذلك تحتاج إلى علم به، ثم اطَّلع على ذلك فأخبر به، والله أعلم.
قال الإمام ابن رجب الحنلبي في " أهوال القبور" صـ 132:
بقية المؤمنين سوى الشهداء ينقسمون إلى: أهل تكليف، وغير أهل تكليف، فهذا قسمان:-
أحدهما: غير أهل التكليف، كأطفال المؤمنين  
فالجمهور على أنهم في الجنة. وقد حكى الإمام أحمد الإجماع على ذلك.
وكذلك نص الشافعي: على أن أطفال المسلمين في الجنة.
وجاء صريحاً عن السلف على أن أرواحهم في الجنة.

س: ما مصير أطفال المشركين الذين ماتوا في الصغر؟
جـ: أطفال المشركين الراجح أنهم في الجنة:
وقد اختلف العلماء في الأطفال عموماً الذين ماتوا وهم صغار.
قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في " الفتح":
اختلف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسألة على أقوال:
أحدها:  أنهم في مشيئة الله تعالى، وهو منقول عن الحمادين، وابن المبارك، وإسحاق، ونقله البيهقي عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة، قال ابن عبد البر، وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص.
ثانيها: أنهم تبع لآبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة، وأولاد الكُفَّار في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارق من الخوارج.
ثالثها: أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار؛ لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها النار.
رابعها: خدم أهل الجنة.
خامسها: أنهم يصيرون تراباً.
سادسها: هم في النار، حكاه عياض عن أحمد، وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يُحفظ عن الإمام أصلاً.
سابعها: أنهم يُمتحنون في الآخرة بأن تُرفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومَن أَبَى عُذِّب، وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في " كتاب الاعتقاد أنهأ،
" بأنه المذهب الصحيح.
ثامنها: أنهم في الجنة. قال النووي: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون،
لقوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }(الإسراء:15) وإذا كان لا يعذب العاقل كونه لم تبلغه الدعوة فلأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى ـ وهو الذي صار إليه البخاري.
لحديث أبى هريرة t قال: قال النبي r:
" كل مولود يُولد على الفطرة فأبواه يُهوِّدَانه، أو يُنصِّرَانه، أو يٌمجِّسَانه"  (البخاري).
ولحديث سمرة وفيه: ".. والشيخ بأصل الشجرة إبراهيم u والصبيان حوله أولاد الناس"، وقد أخرجه البخاري في التعبير بلفظ: " وأما الوِلْدان الذين حوله فكل مولود يُولد على الفطرة ". فقال بعض المسلمين: " وأولاد المشركين؟ فقال: "وأولاد المشركين".  
وروى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها قالت:
" قُلت: يا رسول الله مَن في الجنة؟ قال:"النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة"                                                                     (إسناده حسن).
وروى أبو يعلى من حديث أنس t مرفوعاً:
" سألت ربي اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم"           (إسناده حسن).
وورد تفسير: " اللاهين " بأنهم الأطفال، من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه البزار.
تاسعها: الوقف.
عاشرها: الإمساك. وفي الفرق بينهما دقة"                              (فتح البارى: 3/290)
والراجح: هو القول الثامن أنهم من أهل الجنة.
س: هل أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور؟
يجيب عن هذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في كتابه " الروح" فيقول:
المسألة الثانية في أن أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر أم لا؟  
فهي أيضاً مسألة شريفة كبيرة القدر. وجوابها أن الأرواح قسمان: أرواح معذبة، وأرواح مؤمنة.
فالمعذبة: في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي.
والأرواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة: تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا، وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها، وروح نبينا r في الرفيق الأعلى. قال الله تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} ( النساء: 69)
وهذه المعية ثابتة في الدنيا، وفي البرزخ، والمرء مع من أحب في هذه الدور الثلاثة".  
وعن أبى قتادة t عن النبي r قال:
"إذا وُلي أحدكم أخاه فليحسن كفنه، فإنهم يُبعثون في أكفانهم ويتزاورون في قبورهم"   
       (رواه الخطيب البغداد عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 845) (وهو في السلسلة الصحيحة كذلك رقم: 1425)
وعن أبى أيوب الأنصاري t قال:
" إذا قُبضتْ نفس العبد تلقاه أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير في الدنيا، فيقبلون عليه ليسألوه، فيقول بعضهم لبعض: أَنْظِروا أخاكم حتى يستريح؛ فإنه كان في كرب، فيقبلون عليه؛ فيسألونه: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ هل تزوجت؟ فإذا سألوا عن الرجل قد مات قبله، قال لهم: إنه قد هلك، فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذُهب به إلى أمه الهاوية (النار) فبئست الأم وبئست المربية. قال: فيُعرض عليهم أعمالهم، فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا، وقالوا: هذه نعمتك على عبدك فأتمَّها، وإن رأوا سوءاً قالوا: اللهم راجع بعبدك"
  (أخرجه ابن المبارك في الزهد: 149)، موقوفاً على أبي أيوب الأنصاري، وله حكم الرفع)
قال الألباني: إسناده صحيح " الصحيحة رقم: 2758، ثم قال: وكونه موقوفاً لا يضر، فإنه يتحدث عن أمور نجيبة لا يمكن أن تُقال بالرأي فهو في حكم المرفوع يقيناً.
وأخرج النسائي والحاكم بسند صحيح عن أبى هريرة t أن النبي r قال:
" إذا حُضِرَ المؤمن أتته ملائكة الرحمة بجريرة بيضاء، فيقولون: اُخْرُجِي راضية مرضياً عنك إلى روحِ الله وريحانٍ ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى أنه ليتناوله بعضهم بعضاً حتى يأتون به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشدُّ فرحاً به من أحدكم بغائبه يَقْدمُ عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا.
فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهِب به إلى أمه الهاوية، وإن الكافر إذا اُحتُضِر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: اُخْرُجِي ساخطة مسخوطاً عليك إلى عذاب الله، فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون به باب الأرض فيقولون: ما أَنْتَن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار".
وعن أبى حازم عن أبي هريرة t ـ أحسبه رفعه ـ قال: قال رسول الله r:
" إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين، فودّ لو خرجت ـ يعنى: نفسه ـ والله يحب لقاءه، وإن المؤمن يُصعد بروحه إلى السماء، فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفهم من أهل الأرض، فإذا قال: تركت فلاناً في الدنيا أعجبهم ذلك، وإذا قال: إن فلاناً قد مات، قالوا: ما جيئ به إلينا.
وإن المؤمن يُجلس في قبره فيُسأل: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقال: من نبيك؟ فيقول: نبيِّ محمد r، قال: فما دينك؟ قال: ديني الإسلام، فيُفتح له باب في قبره فيقول أو يٌقال: انظر إلى مجلسك. ثم يرى القبر، فكأنما كانت رقدة.
فإذا كان عدواً لله نزل به الموت وعاين ما عاين، فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبداً، والله يبغض لقاءه، فإذا جلس في قبره أو أُجْلِس، فيٌقال له: من ربك؟ فيقول: لا أدري!، فيقال: لا دَرَيت، فيُفتح له باب من جهنم، ثم يُضرب ضربةً تُسمِع كل دابة إلا الثقلين، ثم يُقال له: نم كما ينام المنهوش ـ فقلت لأبى هريرة: ما المنهوش؟ قال: الذي ينهشه الدواب والحيَّات ـ ثم يُضيَّق عليه قبره"
                                      (أخرجه البزار في مسنده، قال الألباني: والحديث صحيح انظر الصحيحة:2/263/ ح 2828).
س: أين مستقر الأرواح بعد الموت؟
جـ: قال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
" وأما المسألة الخامسة عشرة وهي أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى يوم القيامة؟ هل هي في السماء أم في الأرض؟ وهل هي في الجنة والنار أم لا؟ وهل تودع في أجساد غير أجسادها التي كانت فيها فتتنعم وتعذب فيها أم تكون مجردة؟
فهذه مسألة عظيمة تكلم فيها الناس واختلفوا فيها، وهي إنما تُتلقى من السمع فقط، واختلف في ذلك:
فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله شهداء كانوا أم غير شهداء، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا ديْن، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم، وهذا مذهب أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهم ـ.
وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.
وقالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها.
وقال مالك ـ رحمه الله ـ: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت.
وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله:
أرواح الكفار في النار. وأرواح المؤمنين في الجنة.
وروى عن جماعة من الصحابة والتابعين:
أن أرواح المؤمنين بالجابية، وأرواح الكفار ببرهوت (بئر بحضرموت).
وقال كعب ـ رحمه الله ـ: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة. وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس.
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله.
وقالت طائفة أخرى، منهم ابن حزم: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها.
 
بعد عرض ما سبق يترجح لنا أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت.
أولاً: أرواح الأنبياء، وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى، وقد سمعتْ السيدة عائشة الرسول r في آخر لحظات حياته يقول:" اللهم الرفيق الأعلى" (البخاري)  وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي r ليلة الإسراء، وهذا قول ابن القيم وشارح الطحاوية.
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في " أهوال القبور":
" أما الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين "
ثانياً: أرواح الشهداء، وهؤلاء أحياء عند ربهم يُرزقون.
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169)
وقد سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، فقال:
" إنا قد سألنا رسول الله r عن ذلك، فقال: " أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل مُعلَّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل"
  (رواه مسلم في صحيحه)  
قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرح هذا الحديث وقال القاضي عياض فيه:
إن الأرواح باقية لا تفنى فينعم المحسن ويعذب المسيء، وقد جاء به القرآن والآثار، وهو مذهب أهل السنة، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله r:
" لما أصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، مُعلَّقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا: من يبلغ عنا إخواننا أنَّا أحياء في الجنة نرزق، لئلا ينكلوا عن الحرب، ولا يزهدوا في الجهاد، قال: فقال الله U أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران: 169) (أحمد)
وفي "صحيح البخاري" عن أنس t قال:
"أصيب حارثة يوم بدر ـ وهو غلام ـ فجاءت أمه إلى النبي r فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة منِّي، فإن يكن في الجنة صبرت واحتسبت، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ قال: "ويحك أوهبلت؟ جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس"
وقال r: " رأيت جعفر بن أبى طالب ملكاً يطير في الجنة مع الملائكة بجناحين" (الترمذي)

الثالث: أرواح المؤمنين الصالحين: تكون طيوراً تعلق شجر الجنة.
قال r:" إنما نسمة المؤمن طائر يَعْلُقُ في شجر الجنة، حتى يبعثه الله إلى جسده يوم يبعثه"                       (رواه مالك وأحمد والنسائي عن كعب بن مالك عن أبيه وهو في صحيح الجامع: 2373)
ـ يَعْلُقُ:  يأكل
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
وهناك أحاديث على اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه، وهناك أحاديث تدل على انفراد الروح وحدها كالأحاديث السابقة، ثم قال شيخ الإسلام: فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبرـ إذا شاء الله ـ وإنما تنعم في الجنة وحدها وكلاهما حق، وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذكر الموت" عن مالك بن أنسٍ قال: "بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت".
الرابع: أرواح العصاة: وستأتي النصوص التي تبين ما يلاقيه العصاة من العذاب.
فمن ذلك أن الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة،... والزناة والزواني يُعذبون في ثقب مثل التنور ضيق أعلاه وأسفله واسع، توقد النار من تحته، والمُرابي يسبح في بحر من دم، وعلى الشط من يلقمه حجارة. وقد ذكرنا الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنميمة بين الناس, والذي غل من الغنيمة... ونحو ذلك.
الخامس: قال ابن القيم:" ومنهم: من يكون محبوساً على باب الجنة كما في الحديث الآخر:
" رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة".
وعن سمرة بن جندب، قال: صلَّى بنا رسول الله r فقال:
" هاهنا أحد من بني فلان؟ ثلاثاًَ، فلم يجبه أحد، ثم أجابه رجل، فقال:" إن فلاناً الذي تُوفِّي احتبس عن الجنة من أجل الدَّيْن الذي عليه، فإن شئتم فافتكُّوه، أو فافدوه، وإن شئتم فأسلاموه إلى عذاب الله U"                                                   (أبو داود)
السادس: من يكون مقره باب الجنة:
ـ قال ابن القيم في " الروح" صـ 154:
ومنهم من يكون مقره باب الجنة، كما في حديث ابن عباس: "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج رزقهم من الجنة بكرة وعشية"                     (رواه أحمد)
وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.
السابع: أرواح الكفار: في حديث أبى هريرة t عند النسائي: بعد وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة، ذكر حال الكافر، وما يلاقيه عند النزع، وبعد أن تقبض روحه:
" تخرج منه كأنتن ريح، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار"
الثامن: أطفال المشركين، والراجح أنهم في الجنة كما مر بنا.
س: هل هناك فارق بين أرواح الشهداء في الجنة، وغيرهم من المؤمنين؟
والجواب: نعم. هناك فرق بين حياة الشهداء في الجنة وغيرهم من المؤمنين.
قال الإمام ابن رجب الحنبلي:
"والفرق بين حياة الشهداء وغيرهم من المؤمنين الذين أرواحهم في الجنة من وجهين:-
أحدهما: أن أرواح الشهداء تُخلق لها أجساد، وهي الطير التي تكون في حواصلها، ليكمل بذلك نعيمها، ويكون أكمل من نعيم الأرواح المجردة عن الأجساد، فإن الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله، فعُوِّضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ.
والثاني: أنهم يُرزقون في الجنة, وغيرهم لم يثبت له في حقه مثل ذلك، فإنه جاء أنهم "يعلُقون" في شجر الجنة. وروى "يعلَقون" بفتح اللام وضمها، فقيل: إنهما بمعنى، وأن المراد الأكل من الشجر: قال ابن عبد البر. وقيل: بل رواية الضم معناه "الأكل"، ورواية الفتح معناها "التعلق" وهو التستر. وبكل حال فلا يلزم مساواتهم للشهداء في كمال تَنَعُّمهم بالأكل، والله أعلم "         
(أهوال القبور صـ 165).
وقال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن نعيم الشهداء وعلو درجتهم:  
نصيبهم ( أي الشهداء) من هذا النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة منهم، فله نعيم يختص به ولا يشاركه فيه مَن هو دونه، ويدل على هذا أن الله سبحانه جعل أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، فإنهم بذلوا أنفسهم لله حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من نعيم الأرواح المجرَّدة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين فإنه قال:" نسمة المؤمن طير"
فهذا يعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال:" في جوف طير" ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فصلوات الله وسلامه على من يصدق كلامه بعضه بعضاً، ويدل على أنه حق من عند الله.
س: هل النفس هي الروح ؟ أم هما متمايزان؟
النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما يسمى نفساً إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجرَّدة فتسمية الروح لها أغلب "
    (العقيدة الطحاوية صـ 241)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
" لكن تسمَّى نفساً باعتبـار تدبيره للبدن، وتسمَّى روحاً باعتبـار لطفه، ولهذا يسمى الريح روحاً،
وقال النبي r: "الريح من روح الله" أي من الروح التي خلقها الله.
ويقول ـ رحمه الله ـ أيضاً: والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت. أهـ                                          (رسالة العقل والروح)
ويقول الدكتور عمر سليمان الأشقر في كتابه "القيامة الصغرى":
وقد أخطأ الذين فرَّقوا بين الروح والنفس واعتقدوا أنهما أمران مختلفان. وهذا المخلوق الذي تكون به الحياة وتفقد الحياة بفقده يسمى روحاً ونفساً، ولا يمنع هذا أن تُطلق كل من الروح والنفس إطلاقات أخرى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معانٍ: فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن، والهواء الداخل فيه، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق، وهو الذي يسميه الأطباء الروح، ويمسى الروح الحيواني، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي الـنفس، ويراد بنفس الـشيء ذاته وعينه، وقد يراد بلفظ الـنفس الدم الذي يكون في الحـيوان، كقول الفقهاء: "ما له نفس سائلة وما ليس له نفس سائلة " فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح".أهـ                                                           (رسالة العقل والروح: 2/39)
ـ وتطلق الروح أيضاً على جبرائيل، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (الشعراء: 193)
ـ وتطلق على القرآن، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } (الشورى: 52).
 
س: هل للروح كيفية تُعلَّم؟  
الروح مخلوقة من جنس لا نظير له في عالم الموجودات، ولذلك لا تستطيع أن نعرف صفاتها غير أنه جاءنا من أخبارها أنها تصعد وتهبط، والنبي r أخبرنا أن الروح يُصعد بها إلى السماوات العلى، ثم تعاد إلى القبر في ساعة من الزمن، وأن الروح تُنعَّم أو تُعذَّب في القبر نعيماً أو عذاباً لا نعرفه، ولا عهد لنا به، فهذا ما جاءنا عن أخبارها، وخلاف ذلك ككيفيتها فإننا لا نعرفه.

 س: أين مسكن الروح في الجسد؟  
الروح تسرى في بدن الإنسان كله
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
لا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عَرَض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته.                                                                        (رسالة العقل والروح 2/47)

س: هل الروح مخلوقة؟
جـ: ذهب فريق من الفلاسفة:
إلى أن الروح غير مخلوقة، بل هي قديمة أزلية.
وذهب صنف آخر من زنادقة هذه الأمة وضُلالُها من المتكلمة والمتصوفة:
إلى أن الروح من ذات الله، وهؤلاء أشر قولاً من الصنف الأول، حيث جعلوا الآدمي نصفين:
نصف لاهوت: وهو روحه، ونصف ناسوت: وهو جسده، فنصفه رب ونصفه عبد"              
(مجموع فتاوى شيخ الإسلام 4/222)
وذهب أهل العلم من السلف والخلف:
إلى أن الروح مخلوقة مبتدعة، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي أن يُخالف فيه،
ويدل على ذلك أمور منها:-
1. الإجماع:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:
روح الآدمي مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي ـ الإمام المشهور الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف أو من أعلمهم ـ وكذلك أبو إسحاق بن شاقلا، وأبو محمد قتيه، وكذلك أبو عبد الله بن منده في كتابه "الروح والنفس"، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى وغيرهم.                                 
                                                                                       (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/216)

2.  الكتاب والسنة:
أ ـ قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } (الرعد: 16)، (الزمر: 62)
يقول شارح الطحاوية عقب استدلاله بهذه الآية: " فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه عام".
ب ـ وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} (الإنسان:1)
جـ ـ وقال تعالى لزكريا u:  { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} (مريم:9)
والإنسان مركب من روح وبدن، وخطاب الله لزكريا لروحه وبدنه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في "مجموع الفتاوى" (4/222):
الإنسان عبارة عن البدن والروح معاً، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح،
كما قال أبو الدرداء t: " إنما بدني مطيتي فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني"
وقد روى ابن منده وغيره عن أبى عباس ـ رضي الله عنهما ـ  قال:
" لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنت أمرتني، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول: إنما مثلكما كمثل مُقْعَد وأعمى دخلا بستاناً، فرأي المقعد فيه ثمراً معلقاً، فقال للأعمى: إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكنى أستطيع النهوض إليه، ولكني لا أراه، فقال المقعد: تعال فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمرة، قال المَلَكُ: فعلى أيهما العقوبة؟ قالا: عليهما جميعاً، قال: فكذلك أنتما."
3.  ومما يدل على أن الروح مخلوقة:
أن الأرواح تُقبض، وتُوضع في كفن وحنوط تأتي بهما الملائكة، ويُصعد بها وتُنعَّم وتُعذَّب، وتُمسك في النوم وتُرسل، وكل هذا شأن المخلوق المحدث.
 
4.  لو لم تكن مخلوقة مربوبة لما أقرت بالربوبية، وقد قال الله للأرواح حين أخذ الميثاق على العباد، وهم في عالم الذر: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى }  "ألست بربكم؟، قالوا: بلى"، وذلك ما قرره الحق في قوله:
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } (الأعراف: 172).
ومادام هو ربهم فإنهم مربوبون مخلوقون.

5. لو لم تكن الأرواح مخلوقة، فإن النصارى لا لوم عليهم في عبادتهم عيسى u، ولا في قولهم: "إنه ابن الله" أو "هو الله".
 
6. لو كانت الروح غير مخلوقة، فإنه لا تدخل النار ولا تُعذَّب، ولا تُحجب عن الله، ولا تُغيَّب في البدن، ولا يملكها ملك الموت، ولما كانت صورة توصف، ولم تحاسب ولم تُعذَّب، ولم تتعبد ولم تخف، ولم تَرْجُ، ولان أرواح المؤمنين تتلألأ، وأرواح الكفار سود مثل الفحم"
                                                                      (انظر القيامة الصغرى لعمر سليمان الأشقر ـ رحمه الله ـ)
·      شبهات الذين زعموا أن الروح غير مخلوقة والرد عليهم:
الشبهة الأولى: قالوا: مما يدل على أن الروح غير مخلوقة، قوله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }                                     (الإسراء:85)
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:-
الأول: أن الروح هنا ليست روح الآدمي، وإنما هو اسم ملك، كما قال تعالى:
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً } (النبأ: 38)، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } ( المعارج: 4)
وقال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم } (القدر: 4)
وهو قول معروف مشهور عند علماء السلف في تفسير هذه الآية.
الثاني: وإذا قلنا إن المراد بالروح هنا روح الآدمي ـ كما هو قول جمع من علماء السلف في الآية ـ فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة، وأنها جزء من ذات الله كما يقال: هذه الخرقة من هذا الثوب، بل المراد أنها تُنسب إلى الله، لأنها بأمره تكونت، أو لأنها بكلمته كانت، والأمر في القرآن يذكر ويراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى، وهو المأمور به، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل:1)، أي المأمور به، ويمكن أن يقال أيضاً: إن لفظة {مِنْ}
في قوله:{مِنْ أَمْرِ رَبِّي } (الإسراء:85)؛ لابتداء الغاية، ومعلوم أن {مِنْ} تأتى لبيان الجنس،
كقولهم: "باب من حديد"، وتأتى لابتداء الغاية، كقولهم خرجت من مكة، فقوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي }
ليس نصاً في أن الروح بعض الأمر أو من جنسه، بل هي لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ في قوله:{وَرُوحٌ مِّنْهُ}حيث قال: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}
يقول: من أمره كان الروح، كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ }
                                                                                    (الجاثية: 13)
ونظير هذا أيضاً قوله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } (النحل:53)
فإذا كانت المسخرات والنعم من الله، ولم تكن بعض ذاته، بل منه صدرت، لم يجب أن تكون معنى قوله في المسيح: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}أنها بعض ذاته.                 
                                                                        (راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/226-235)
الشبهة الثانية: قوله تعالى في آدم u: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 29)
وقوله في مريم ـ عليها السلام ـ: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء:91)
فقالوا: فقد أضاف الله الروح إلى نفسه.
والجواب عن هذا كما قال شارح الطحاوية ـ رحمه الله ـ:
ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان:-
الأول: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه.
الثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول، والروح، كقوله:
{نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}(الشمس: 13)، وقوله:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1)
وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } (الحج: 26)، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكن إضافة تقتضى تخصيصاً وتشريفاً، يتميز بها المضاف إلى غيره.                                     (شرح الطحاوية صـ 442).

س: ما هي أنواع النفس؟
أخبرنا الحق تعالى أن النفس ثلاثة أنواع:-
النفس الأمارة بالسوء: { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53)
والنفس اللوامة: { وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة: 2)
والنفس المطمئنة: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ{27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 27-30)
وليس المراد أن لكل إنسـان ثلاثة نفوس، وإنما المـراد أن هذه صفـات وأحـوال لذاتٍ واحدة، فإذا غلب على النفس هواها بفعلها للذنوب والمعاصي فهي النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة هي التي تذنب وتتوب، سميت لوامة لأنها تلوم صاحبها على الذنوب، ولأنها تتلوَّم، أي تترد بين فعل الخير والشر، والنفس المطمئنة هي التي تحب الخير والحسنات وتريدها وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك، وقد صار ذلك لها خلقاً وعادة وملكة.                    (رسالة العقل والروح لابن تيمية)
وقال شارح الطحاوية ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر أنواع النفوس:
والتحقيق: أنها نفس واحدة لها صفات، فهي أمَّارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوَّامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوى الإيمان صارت مطمئنة "
(شرح الطحاوية صـ 445).
س: هل تموت الروح؟
جـ: تعرَّض شارح الطحاوية لهذه المسألة فقال: واختلف الناس هل تموت الروح أم لا؟
فقالت طائفة: تموت لأنها نفس وكل  نفس ذائقة الموت، وقد قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}
 (الرحمن: 26)
وإذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت.
وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دلَّ على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يدخلها الله في أجسادها،
والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب.
وقد قال تعالى عن أهل الجنة: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } (الدخان: 56)
وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد "                                                        (شرح الطحاوية  146)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع الفتاوى (4/279):
الأرواح مخلوقة بلا شك، وهي لا تقدم ولا تفنى، ولكن موتها بمفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلى الأبدان". أهـ
وقال النووي  ـ رحمه الله ـ معلقاً على حديث النبي r عن الشهداء، والحديث في صحيح مسلم وفيه: "أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل".
فقال النووي ـ رحمه الله ـ  قال القاضي عياض:
" إن الأرواح باقية لا تفنى، فينعم المحسن، ويُعذَّب المسيئ، وقد جاء به القرآن والآثار وهو مذهب أهل السنة.
·            احذر هذه القصة فإنه مُختَلَقة مُفْْتَراة:
قصة رؤية العباس t مناماً لعمر بن الخطاب t بعد عام من وفاته وقول عمر له:
هذا أوان فراغي:
قال أبو حامد الغزالي في كتابه" إحياء علوم الدين":  قال العباس t:
كنت وداً لعمر فاشتهيت أن أراه في المنام، فما رأيته إلا عند رأس الحول، فرأيته يمسح العرق عن جبينه، وهو يقول: هذا أوان فراغي، إن كان عرشي ليهد لولا أني لقيته رءوفاً رحيماً"
                                                                                                          (إحياء علوم الدين: 4/539)
هذه قصة باطلة ذكرها الغزالي في " إحياء علوم الدين"  بلا سند. وهذا المتن باطل
إذ كيف يتصور أن الفاروق عمر t الذي قال فيه وفي أبي بكر t ـ النبي r:
" هذان من الدين السمع والبصر"
كيف يُتَصور أنه لا يفرغ من حسابه إلا بعد عام كامل؟!!! إذن فما يُفعل في بقية الأمة؟!
فذكْر هذه القصص وأمثالها يسيء إلى قدر الصحابة وعلو مكانتهم.
ورحم الله من قال: " لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"
فننبه إخواننا إلى قصص القُصَّاص التي تنال من فضل الجبال.
وللحديث بقية ـ إن شاء الله تعالى ـ مع "أهــــوال القــبـــور"
وبعد...،
فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة
نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبلها منا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان على إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثمّ خطأ فاستغفر لي
وإن وجدت العيب فسد الخللا
جلّ من لا عيب فيه وعلا
فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب
                                                والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.........
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك


[1])) قال ابن القيم  ـ رحمه الله ـ كما في كتابه "الروح" صـ110: وقد اختلف في الأنبياء هل يُسألون في قبورهم؟ على قولين:
 وهما وجهان في مذهب أحمد وغيره. أهـ،  (انظر كذلك مجموع الفتاوى: 4/257) .

تعليقات